[ صالح ] ..
فتى صغير .. جاوز الحادي عشر من أعوام عمره ..
كان [ صالح ] يشكل ثنائياً فريداً من نوعه مع أخيه [ راشد ] .. فبالرغم من أنه يصغره بسنتين إلا أنهما كانا كالجسد الواحد ..
عاش [ صالح ] في المنطقة الشرقية حياته مع والده الكفيف .. فلقد أصيب أبوه في عينه بداء أفقده البصر .. وسجل اسمه في سجل أهل الأعذار .. رغم محاولاته اليائسة للعلاج .. لكن أمر الله فوق كل شيء ..
كانت حياة [ صالح ] واسعة النطاق .. غير محدودة بإطار .. فإخوانه في كل صوب وناحية .. كلٌ لاهث خلف دنياه تقوده .. وربما يقوده أحياناً ..
كان للمخطط الذي يسكنه [ صالح ] دور في تربيته .. ربما فاقت كل دور قدمه والده ووالدته .. فلقد كان مع أخيه [ راشد ] يتظاهران بالقوة والبسالة أمام ابناء الحارة .. وربما قاما بمجازفات لا تعقل لإثبات ذلك ..
هاهو [ صالح ] قد أمسك بـ ضب في زهو أمام أبناء الحارة وجمع من [ العرابجة ] ..
وبحركة سريعة .. يرفع الضب عالياً .. ويقول : ( شباب .. انظروا ما سأفعل ) .. واستل سكينا معه فشق صدره لينزل الدم سريعاً .. ويبتدر شربه وسط ذهول الجميع ..
عجبا .. هل غدا [ صالح ] مصاصاً للدماء .. !
------------------
عذرا ..
فلقد كانت الأيام تخبئ في طياتها أشياء وأشياء ..
------------------
يوماً ..
ومع الإهمال الأسري .. والخرزات المنحلة ..
تعرف [ صالح ] على ساحر من سكان الحي ..
كان ذلك ( حدثا ) فريداً في حياته ..
لقد كان يصنع العجائب .. !
يدق الريال المعدني بعينه ..
ويسير وسط النار بجسده ..
ويحدث بالغرائب والفرائد ..
كان [ صالح ] يقف مشدوهاً أمام تلك القوى الخارقة ..
يردد دائماً : ( أرجوك .. علمني ) ..
لكن الرفض كان الجواب المتوقع .. ( لطفاً من الله ) ..
وبعد أشهر .. هرب الساحر إلى خارج المملكة .. بعد أن أحس بافتضاح أمره ..
-------------------
و كانت الأيام تخبئ في طياتها أشياء وأشياء ..
-------------------
أحس الوالد أن بقاءهم في ( الدمام ) سيضعف معيشتهم .. خاصة مع ضعف المردود المادي للمحل التجاري هناك ..
لذا .. كان لا بد من اتخاذ قرار حاسم ..
( سننتقل إلى الرياض ) .. وبلا مقدمات ..
لم يكن أمام الأبناء إلا الإذعان .. فقرار أبيهم لا مجال للأخذ والرد فيه .. ولو جرب أحدكم التحاور مع ( كفيف ) لعلم تلك الحدة التي تنتابه ضد من يخالفه ..
---------------------
وفي الرياض .. كان لـ [ صالح ] موعد مع توجه آخر ..
ترى ..
ما الذي حدث له ..
وكيف وقف مع أخيه [ راشد ] جنباً إلى جنب ..
وما ردة فعل إخوته .. ؟
-----------------------
(2)
( محنة .. في طيّها المنح ) ..
هاهي الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر .. والشمس المحرقة تذيب الجلد والجليد ..
وهاهو [ صالح ] يحمل على كتفه التلفاز ليضعه في مكانه في غرفة الجلوس ..
هنا أنسب .. قالها [ راشد ] مشيراً إلى مكان آخر ..
لكن [ صالح ] كان قد وضع التلفاز وانطلق لحمل شيء آخر .. !
فرغم ما كان بينهما من الود .. إلا أن النفس كانت تكاد تخرج من شدة التعب والإعياء [ والحر الشديد ] ..
استقرت العائلة في ذلك الحي .. وهو نسبياً من أفضل أحياء الرياض سكاناً ومنطقة .. خاصة وأن البيت لصيق بالجامع .. خاصة وإمامه معروف بصوته الندي الذي يحيطك بروحانية عجيبة ..
لكن ..
لم يكن القرب أو البعد من الجامع يعني لأسرة [ صالح ] شيئا كبيراً .. إذ لم يكن من أسرتهم أحد يصلي .. إلا [ صالح ] .. حيث كان يصلي في البيت .. نقراً كـ[ نقر الغراب ] .. وربما أسرع ..
كان إخوته يهزؤون به : ( [ صالح ] هل تظن أن صلاتك هذه تفيدك شيئاً ) .. لكنه لم يكن يجيبهم .. كان يقول : ستنفعني صلاتي هذه يوما ..!
ولم يكن [ صالح ] بعيداً .. لكن .. كان بحاجة إلى من يعلق الجرس .. فكم من الغرقى حولنا قريب إلى شاطئ النجاة .. لكن من يلقي له الطوق ..[ يبقى سؤالاً ]..
كان بيت [ صالح ] مليء بالشباب .. فإخوته من الذكور ستة .. وكلهم متقاربي العمر .. فأكبرهم قارب الثلاثين .. وأصغرهم جاوز العاشرة ..
ولأجل ذلك .. فلم يكن يوم يمر إلا وتحدث مشكلة في البيت .. وترتفع الأصوات .. وربما يصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي ..
لكن ذلك اليوم لم يكن عادياً ..
خرج [ صالح ] من منزله بعد مشاجرة حدثت مع إخوته .. حيث كانوا في صف .. وكان هو في الصف الآخر .. أحس أن المعركة غير عادلة .. وربما .. مؤامرة .. فخرج ..
في الشارع ..
وقف [ صالح ] أمام باب البيت حائرا ..
ماذا أفعل ؟؟
وإلى أين أذهب ؟؟
أأعود .. ؟؟
لا لا .. ( فلم تكن نفسه الأبية تطاوعه للعودة مهزوماً ) ..
نظر يمنة ويسرة ..
شدّه ذلك الصرح العظيم ..
نعم .. إلى هناك .. !
-----------
دخل [ صالح ] ..
نعم .. دخل .. ولأول مرة ..
دخل الجامع ..
الله ..
ما هذه الروحانية .. ؟
وما هذا السكون ..؟
ما أعظم الفرق بين هدوء الجامع وصخب المنزل ..
رمى [ صالح ] ببصره إلى زاوية بالجامع ..
اتجه إليها ..
وفي الطريق : تذكر أن أستاذهم الوقور .. ذا اللحية المهيبة .. والخلق الدمث قد أخبرهم أنه ينبغي على كل داخل للمسجد أن يصلي ركعتين ..
استن سارية .. وبدأ يصلي ..
ركعتين .. مرت كلمح البصر ..
لكنها كانت شيئاً ..
------------
وحضرت الصلاة ..
صلاة مشهودة .. وبداية حياة جديدة لصاحبنا ..
يا الله ..
ما أسعد المصلين هنا .. وما أهناهم ..
تُـرى .. كيف كنت أمضي حياتي بعيداً عن هذه السعادة ..
انظر ..
ذاك يتجاذب مع جاره أطراف الحديث ..
وآخر يعانق جاراً قدم من سفره ..
وثالث يعين كهلاً للذهاب إلى منزله ..
الله ..
ما هذه الحياة ..
نِعم هؤلاء .. ونِعم ما هم فيه من السعادة